المقالاتسلايد

فرانز رايشلت: الخياط الطائر الذي مات من أجل اختراعه

خليفة عباس بن فرناس

في صباح شتوي بارد من فبراير عام 1912، احتشدت مجموعة من الصحفيين والمتفرجين عند قاعدة برج إيفل في باريس، لمتابعة تجربة فريدة من نوعها أعلن عنها خياط نمساوي الأصل يدعى فرانز رايشلت. لم يكن أحد يتوقع أن تنتهي هذه التجربة بتحطيم الجسد والآمال معًا، في واحدة من أكثر لحظات التاريخ العلمي مأساوية وغرابة.

من الخياطة إلى اختراع المظلات

ولد رايشلت في 16 أكتوبر 1878 في بلدة صغيرة تدعى فيغشتتل في مملكة بوهيميا، التابعة آنذاك للإمبراطورية النمساوية-المجرية (وتُعرف اليوم باسم شتييتي في جمهورية التشيك).

انتقل إلى باريس عام 1898، ونجح هناك في افتتاح محل للخياطة أصبح معروفًا لدى الجالية النمساوية الزائرة للعاصمة الفرنسية.

لكن حياة رايشلت لم تكن لتبقى محصورة في الإبر والخيوط. فقد استحوذت عليه فكرة جديدة بعد أن استمع إلى قصص مأساوية عن الطيارين الذين لقوا حتفهم إثر سقوط طائراتهم. أراد أن يطور بدلة يمكن ارتداؤها وتتحول إلى مظلة عند الحاجة، مما يسمح للطيارين بالنجاة إذا اضطروا إلى القفز من الطائرة.

ولادة “البدلة-المظلة”

بدأ رايشلت في تطوير ما أسماه “البدلة-المظلة” عام 1910، وهي ابتكار يجمع بين خفة ملابس الطيار العادية ومكونات قابلة للفرد عند السقوط. نجحت بعض تجاربه الأولية باستخدام دمى من ارتفاعات منخفضة، لكن محاولاته المتكررة لتطبيق الفكرة على مستوى بشري باءت بالفشل.

رغم تحذيرات المتخصصين ورفض نادي الطيران الفرنسي لتصميمه، استمر رايشلت في العمل على اختراعه. وقدم العديد من الطلبات للحصول على إذن رسمي لإجراء تجربة من برج إيفل، مؤمنًا بأن الارتفاع المناسب سيكون الفيصل في إثبات نجاح مظلته.

ذكرت صحيفة L’Ouest-Éclair في عام 1911 أن رايشلت قفز بنفسه من ارتفاع يتراوح بين 8 إلى 10 أمتار في “جوانفيل”؛ وفشلت المحاولة لكن كومة من القش خففت من أثر السقوط ولم يصب بأذى. أما صحيفة Le Matin فذكرت محاولة أخرى في “نوجنت” من ارتفاع 8 أمتار أدت إلى كسر في ساقه. وقالت صحيفة Le Petit Journal أن رايشلت قد أجرى تجربتين على الأقل باستخدام دمى من منصة برج إيفل الأولى خلال عام 1911، لكن مقابلة أجرتها صحيفة La Presse مع أحد أصدقائه أوضحت أنه كان يتقدم بطلبات للحصول على الإذن بالقفز من البرج لأكثر من عام دون جدوى، حتى حصل أخيرًا على الموافقة.

صباح القفزة القاتلة

في صباح الأحد 4 فبراير 1912، وصل رايشلت إلى برج إيفل في تمام السابعة صباحًا، مرتديًا بدلة المظلة الخاصة به. وبينما كان الجميع يعتقد أنه سيستخدم دمية، أعلن أنه سيقفز بنفسه. رغم محاولات أصدقائه وصحفيين وخبراء لإقناعه بالعدول عن القفز، أصر على موقفه، قائلاً:

“أريد أن أجرب التجربة بنفسي وبدون خداع، لأثبت قيمة اختراعي.”

عند الساعة 8:22 صباحًا، صعد رايشلت إلى المنصة الأولى من البرج – على ارتفاع 57 مترًا – وقف على طاولة، ثم وضع قدمه على الحاجز، وتردد لثوان، ثم قفز.

لم تنفتح المظلة كما كان يأمل. التفّت حوله وسقط بسرعة نحو الأرض، واصطدم بالتربة المتجمدة أسفل البرج. تكسرت جمجمته وعموده الفقري وأطرافه، وتوفي على الفور.

صدمة الصحافة والرأي العام

في اليوم التالي، تصدرت صوره الصفحات الأولى لأربع صحف فرنسية كبرى، ووصفت الحدث بأنه “تجربة مأساوية”. لم يتهم رايشلت بالانتحار، لكن البعض وصفه بالمضطرب ذهنيًا، فيما أشار آخرون إلى أنه كان واقعًا تحت ضغط الحاجة لإثبات نجاح اختراعه قبل أن تنقضي صلاحية براءة الاختراع.

https://www.gettyimages.com/detail/video/parachute-pioneer-franz-reichelt-dressed-in-parachute-news-footage/510670253

وبينما كانت السلطات معتادة على السماح بإجراء تجارب من برج إيفل باستخدام الدمى، أعلنت الشرطة لاحقًا أنها منحت رايشلت الإذن ظنًا منه أنه سيتبع نفس البروتوكول، وأنهم لم يكونوا ليوافقوا لو علموا بنيته القفز بنفسه.

إرثه ومكانته بعد وفاته

أدت وفاة رايشلت إلى تشديد القيود على التجارب المماثلة من برج إيفل، ولم تُمنح تصاريح للقفز الحي من البرج إلا في حالات نادرة ومدروسة. لم تقع أي وفاة أخرى بسبب المظلات من البرج حتى عام 2005، عندما فشل نرويجي في فتح مظلته أثناء قفزة ترويجية.

وقد عاد اسم رايشلت للظهور في الأربعينيات في الولايات المتحدة، عندما زعم أن صورته استُخدمت في لوحة جدارية أُزيلت لاحقًا بسبب الجدل السياسي. كما صُورت قصته في فيلم فرنسي قصير عام 1993 بعنوان “الخياط النمساوي”.

النهاية التي سبقت نجاح الفكرة

في زمن لم تكن فيه مظلات الطيارين قد وصلت إلى النضج العملي، كان رايشلت أحد أوائل من حلموا بمظلة قابلة للارتداء. ورغم أن حياته انتهت بسقوط مأساوي، فإن تصميمه ورؤيته ساهما – ولو بشكل غير مباشر – في لفت الأنظار إلى أهمية أمان الطيارين، ليبدأ بعد ذلك التطوير الحقيقي للمظلات العسكرية.

لقد مات رايشلت وهو يحاول إثبات فكرته… لكنه دخل التاريخ باعتباره أحد أكثر المبتكرين جرأة، وربما تهورًا، في تاريخ الطيران.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!