
لا شك أن الحضارة البشرية قد مرت بالكثير قبل أن تصل إلى تحضرها الآن، ورغم ما قد يعتقده البعض من كونها مشاهد دموية إلا أن هذا بكل تأكيد لا يمكن أن يقارن بما عاشه البشر في بداية الحياة على هذا الكوكب، عندما كانوا قبائل همجية لا غرض لها سوى نهب بعضها البعض.
واحدة من العادات التي انتشرت لدى العديد من الجماعات البشرية هي “صيد الرؤوس” حيث كان يعتقد أن قتل ضحية والاحتفاظ برأسها ستجعل هذا الشخص مقطوع الرأس عبد لقاتله في الحياة الأخرى، وأن احتفاظ القاتل برأس قاتله هو قوة روحية قد تضاف إليه، لأنهم كانوا يعتقدون أن مكان الروح ف يالرأس.
وقد كانت ممارسة صيد الرؤوس موضوعًا لدراسة معمقة في علم الأنثروبولوجيا، حيث حاول العلماء فهم وتفسير أدوارها ووظائفها ودوافعها الاجتماعية. وتتناول الكتابات الأنثروبولوجية مواضيع متعددة ضمن هذه الممارسة، منها:
إذلال العدو، والعنف الطقسي، والتوازن الكوني، وإظهار الرجولة، وأكل لحوم البشر، والسيطرة على جسد وروح العدو في الحياة وما بعد الموت، وأخذ الرأس كغنيمة ودليل على القتل (كإنجاز في الصيد)، والتفاخر بالعظمة، والحصول على الهيبة من خلال الاستحواذ على روح وقوة الخصم، وأيضًا كوسيلة لضمان خدمة الضحية كعبد في الحياة الآخرة.
في أندونيسيا وماليزيا
في جنوب شرق آسيا، تناولت الكتابات الأنثروبولوجية ممارسات صيد الرؤوس وغيرها لدى قبائل الموروت، دوسون لوتود، إيبان، بيراوان، وانا، والمابوروندو.

بين هذه المجموعات، كان صيد الرؤوس عادةً طقسًا شعائريًا أكثر من كونه فعل حرب أو ثأر. وكان المحارب يأخذ رأسًا واحدًا فقط. وكان صيد الرؤوس مرتبط بمفاهيم الرجولة والزواج، وكانت الرؤوس المأخوذة ذات قيمة عالية.
ومن الدوافع الأخرى لصيد الرؤوس: أسر الأعداء كعبيد، نهب الممتلكات الثمينة، الصراعات العرقية الداخلية والخارجية، والتوسع الإقليمي.
زار عالم الأنثروبولوجيا والمستكشف الإيطالي إيليو موديلياني مجتمعات صيد الرؤوس في جنوب جزيرة نياس (إلى الغرب من سومطرة) عام 1886، وكتب دراسة مفصلة عن مجتمعهم ومعتقداتهم.
وقد وجد أن الهدف الرئيسي من صيد الرؤوس هو الاعتقاد بأنه إذا امتلك رجل جمجمة شخص آخر، فإن هذا الشخص سيخدمه كعبد إلى الأبد في العالم الآخر. وكانت الجماجم البشرية تُعد سلعة ثمينة.
وقد استمر صيد الرؤوس في جزيرة نياس بشكل متقطع حتى أواخر القرن العشرين، وسُجل آخر حادث في عام 1998.
وكان صيد الرؤوس يُمارس بين شعب سومبا حتى أوائل القرن العشرين، وكان يتم فقط في حملات حربية كبيرة. وكانت الجماجم التي يتم جمعها تُعلق على “شجرة الجماجم” التي تُنصب في وسط القرية.
كتب كينيث جورج عن طقوس صيد الرؤوس السنوية التي شاهدها لدى قبيلة المابوروندو، وهي قبيلة جبلية في جنوب غرب جزيرة سولاويزي الإندونيسية. لم تكن الرؤوس تؤخذ فعليًا، بل تُستخدم رؤوس رمزية على شكل جوز الهند في طقس احتفالي يُسمى بانغنغاي، يُقام في ختام موسم حصاد الأرز.
جيمس بروك والرجل الأبيض
في منطقة ساراواك، المنطقة الشمالية الغربية من جزيرة بورنيو، أسس “رجل أبيض” يُدعى جيمس بروك سلالة محلية، وفرض عدم صيد الرؤوس على الإيبان، بعد أن هزمهم في معركة بيتينغ مارو عام 1849، وبعد ذلك وسعت سلالة بروك أراضيها في المنطقة، إلى ما يعرف باسم ولاية ساراواك، وقجندوا المالاويين والإيبان وغيرهم كقوة لقمع التمردات، وعلى الرغم أن جيمس كان قد حظر صيد الرؤوس، ولكنه خلال حملاته العسكرية سمع بصيد الرؤوس.
وكان المقاتلون المشاركون يُعفون من الضرائب أو يُمنحون أراضٍ جديدة كمكافأة.
في نيوزيلندا
في نيوزيلندا، كان الماوري يقومون بحفظ رؤوس بعض أجدادهم وبعض الأعداء في شكل يُعرف بـ موكوموكاي. حيث كانوا يُزيلون الدماغ والعينين، ثم يُدخنون الرأس ويحتفظون بوشوم الموكو المحفورة عليه. وفي أواخر القرن التاسع عشر، بدأ بيع هذه الرؤوس لهواة الجمع الأوروبيين، وفي بعض الحالات كانت تُصنع حسب الطلب خصيصًا لهذا الغرض.
الفلبين
في الفلبين، كان صيد الرؤوس واسع الانتشار بين مختلف شعوب كورديليرا في مرتفعات لوزون. وقد ارتبطت هذه الممارسة بطقوس المرور (البلوغ)، ومواسم حصاد الأرز، والطقوس الدينية الموجهة لأرواح الأجداد، والعداوات الدموية، وكذلك بالوشم التقليدي.
كانت قبائل الكورديليرا تستخدم أسلحة خاصة لقطع رؤوس الأعداء في الغارات والمعارك، ومنها فؤوس الرأس المميزة وأشكال متعددة من السيوف والسكاكين. ورغم أن بعض القبائل القريبة من المناطق المسيحية في السهول قد تخلّت عن هذه الممارسة خلال الفترة الاستعمارية الإسبانية في القرن التاسع عشر، إلا أن صيد الرؤوس ظل منتشرًا في المناطق النائية التي لم تصلها سلطة الاستعمار.
وفي أوائل القرن العشرين، تمكنت الولايات المتحدة، خلال فترة استعمارها للفلبين، من القضاء نهائيًا على هذه العادة.
تايوان
كان صيد الرؤوس ممارسة شائعة بين السكان الأصليين في تايوان. جميع القبائل مارست هذا الطقس.
كان سكان تايوان الأصليون الجبليون يشنون غارات صيد الرؤوس ضد القبائل المعادية، وضد المستوطنين اليابانيين، وكان ينظر إلى فئتي الهان واليابانيين باعتبارهم غزاة وكاذبون وأعداء، وكانت هذه الغارات تستهدف العمال في الحقول، وتشعل النيران في المساكن، ثم يقتل البشر ويقطع رأس من يفر من الحريق.
واستمرت هذه الممارسة خلال فترة الحكم الياباني لتايوان، لكنها انتهت في ثلاثينيات القرن العشرين نتيجة قمع من قبل الحكومة الاستعمارية اليابانية.
الحرب الصينية الفرنسية 8 أكتوبر 1884:
خلال المعركة، أسر الصينيون 11 جنديًا فرنسيًا جرحى، إلى جانب القبطان فونتين من السفينة لا غاليسونيير، وقطعوا رؤوسهم. ثم عُرضت هذه الرؤوس على أعمدة من الخيزران لإثارة المشاعر المعادية للفرنسيين. وقد نُشرت صور هذه المشاهد في مجلة “تيان شي تساي” المصورة في شنغهاي.
جاء في تقرير:
“في السوق، ظهرت مشهد لا يمكن الخلط فيه: ستة رؤوس فرنسيين، من النوع الأوروبي الواضح، عُرضت مما أثار اشمئزاز الأجانب. قلة من الناس زاروا المكان وغادروه بسرعة، ليس فقط بسبب بشاعة المشهد، بل بسبب الاضطراب الذي بدأ يظهر في الحشود المحيطة. وفي المعسكر وُجدت رؤوس ثمانية فرنسيين آخرين، منظر قد يُرضي وحشيًا أو رجلاً من الجبال، لكنه لا يليق بذوق الجنود الصينيين الذين يُفترض أنهم أكثر تحضرًا اليوم.”
لم يُعرف عدد القتلى والجرحى من الفرنسيين بدقة. أربعة عشر جنديًا تُركت جثثهم على الشاطئ، ويُعتقد أن عددًا من الجرحى أُعيدوا إلى السفن. الحسابات الصينية ذكرت أن عشرين جنديًا قُتلوا، وأُصيب عدد كبير.
في المساء، زار الكابتن بوتيلر والقنصل فراتر الجنرال صن، للاحتجاج على قطع الرؤوس وعرضها. وأرسل فراتر برقية إلى الجنرال يندد فيها بشدة بهذه الممارسات. ويُقال إن الجنرال وعد بعدم تكرارها، وأمر بدفن الرؤوس فورًا. وأُشير إلى صعوبة سيطرة الجنرال على القوات التي يقودها، مثل رجال القبائل الجبلية، والذين يُعدّون من “أشد الوحوش في التعامل مع أعدائهم”.
اليابان:
كان الساموراي يقدمون رؤوس خصومهم إلى الجنرالات كمظهر من مظاهر المجد، ويُكافأون بالأراضي أو الذهب أو الترقية.
الرؤوس كانت تُعرض علنًا في الميادين.
في أوروبا:
لم تكن هذه الظاهرة قاصرة فقط على شعوب جنوب شرق آسيا بل كانت كذلك في أوروبا على سبيل المثال:
الكلت:
اعتقدوا أن الرأس يحتوي روح الإنسان. كانوا يثبتون رؤوس الأعداء على الجدران أو أعناق الخيول.
في الأساطير الإيرلندية، ذُكر أن البطل كوشولن قطع رؤوس خصومه وعلقها على عربته.
استمرت الممارسة حتى نهاية العصور الوسطى في إيرلندا واسكتلندا.
مونتينيغرو (الجبل الأسود):
استمر صيد الرؤوس حتى عام 1876، خصوصًا خلال الصراعات مع الدولة العثمانية.
بُنيت “برج تابليا” لعرض رؤوس الجنود العثمانيين.
أُمر بوقف الممارسة لأسباب دبلوماسية، وهُدم البرج في عام 1937.
العصر الحديث: صيد الرؤوس في القرن العشرين
الحرب الصينية-اليابانية الثانية (مجزرة نانجينغ):
ارتكب بعض الجنود اليابانيين جرائم مروعة ضد المدنيين والجنود الصينيين، حيث تم قطع رؤوس الآلاف في نانجينغ عام 1937.
من أبشع الجرائم: “مسابقة قتل 100 شخص” حيث تنافس ضباط يابانيون على عدد القتلى بحد السيف.
التقطت صور تذكارية مع أكوام الرؤوس.
الحرب العالمية الثانية – مسرح المحيط الهادئ:
بعض الجنود الأمريكيين جمعوا جماجم الجنود اليابانيين كتذكارات أو لإرسالها إلى الأصدقاء والعائلات في الولايات المتحدة.
رغم إصدار أوامر عسكرية صارمة ضد هذا الفعل، استمر بشكل سري.
مجلة LIFE نشرت صورة لفتاة أمريكية تتلقى جمجمة يابانية كهدية من خطيبها، ما أثار غضبًا عامًا.
في بورنيو، دعمت القوات الأسترالية والبريطانية تشكيل جيش من قبائل “الداياك” المحليين، نفذوا هجمات ضد اليابانيين وأعادوا إحياء صيد الرؤوس.
الحرب الماليزية (1948–1960):
استعانت بريطانيا وقوات الكومنولث بمرتزقة من قبائل الإيبان لمحاربة حركة التحرير الوطنية الملايزية.
وكان يسمح لهم بقطع رؤوس المقاتلين والاحتفاظ بفروة الرأس كتذكار. وفي عام 1952، نشرت صحيفة “Daily Worker” البريطانية صورًا لجنود بريطانيين يتفاخرون بعرض رؤوس بشرية، مما أثار فضيحة.
انكرت الحكومة البريطانية أنكرت في البداية، ثم اعترفت بصحة الصور أمام البرلمان. ومنع وينستون تشيرشيل بمنع الممارسة بسبب مخاوف من استخدامها كدعاية شيوعية.