
كان زكريا أحمد معروفًا بخفة ظل لا تُجارى، فقد كان يضحك من قلبه حتى لو أعاد نفس النكتة عشرات المرات. ومع ذلك، فإن هذا الوجه المرح كان يخفي وراءه حياة مثقلة بالتجارب القاسية والمآسي الشخصية.
ويُلقب زكريا أحمد بـ”شيخ الملحنين”، فهو الذي أعاد اكتشاف تراث سيد درويش، أحد أعمدة الموسيقى المصرية الحديثة، كما كان أيضًا صاحب الفضل في اكتشاف صوت أم كلثوم التي أصبحت لاحقًا “كوكب الشرق”.
نشأة صعبة بين أب صارم وأم عطوفة
وُلد زكريا أحمد عام 1896 لأب مصري شديد الطباع وأم تركية الأصل. أنجبت الأم واحدًا وعشرين طفلًا لم ينجُ منهم أحد سوى زكريا. كان الوالد حافظًا للقرآن ومحبًا للتواشيح، فأرسل ابنه للأزهر ليتلقى العلم. لكن الفتى كان يشتري كتب الموسيقى ويخفيها بين كتبه الدينية، وحين اكتشف والده الأمر غضب وهدده. عندها هرب زكريا من البيت، إلا أن شغفه بالموسيقى ظل يطارده، فراح يتتبع الفرق الشعبية في الموالد والأفراح حتى أقنع والده في النهاية بعودته.
ورغم عودته، لم يتقبل الأب فكرة أن يصبح ابنه موسيقيًا، معتبرًا أن الفن لا يطعم خبزًا، مستشهدًا بمصير عبده الحامولي الذي مات فقيرًا. لكن زكريا كان يرى في الحامولي فنانًا تحدى الخديوي إسماعيل نفسه، فظل متمسكًا بحلمه.
وفاة الأم زادت حياته اضطرابًا، خاصة بعدما تزوج الأب من امرأة أخرى لم تتوقف عن إيذائه، ما دفعه لمغادرة المنزل مرة أخرى. وراح يرتاد المقاهي في شارع محمد علي، يتابع الملحنين والعازفين. هناك رآه زملاؤه الأزهريون، فأبلغوا عنه بحجة أنه يرتاد تلك الأماكن بزي الأزهر، فصدر قرار بفصله.
وكان زكريا يردد مقولته الشهيرة:
“اللي يشتمني عندي زي اللي يديني فلوس.. لا الشتيمة لازقة ولا الفلوس قاعدة.. كله رايح يا أستاذ.”
من القاهرة إلى السلطان العثماني
لم يكبح فصله من الأزهر شغفه، فالتحق ببطانة الشيخ درويش التي تعادل ما يُعرف اليوم بالكورال. ثم انتقل إلى فرقة الشيخ علي محمود الذي أجازه برفع الأذان.
طاف مع الفرق الموسيقية قرى ومدن مصر من أقصاها إلى أقصاها، يحيي الأفراح والموالد والسبوعات، حتى وصل إلى قصور الباشوات. وكان نجاحه سببًا في أن يستدعيه السلطان العثماني محمد رشاد إلى إسطنبول لإحياء حفل هناك، ومنحه وسام “النيشان المجيدي”.
المسرح بعد الحرب
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، ازدهرت الفرق المسرحية في القاهرة، ولم يترك الشيخ زكريا مسرحًا إلا وزاره. التقى هناك بالشيخ سلامة حجازي وفرح أنطون. تخلى عن زيه الأزهري وارتدى البدلة الأوروبية، وكتب على باب غرفته:
“لا يهمني من يضع للناس شرائعهم، ما دمت أنا الذي أضع لهم أغانيهم.”
خلال مسيرته، لحن زكريا أحمد أكثر من 1800 عمل غنائي لصفوة المطربين، وأسهم في تشكيل ملامح الموسيقى المصرية كما نعرفها.
اللقاء بسيد درويش
في عام 1917، سمع زكريا دور “وأنا مالي” لسيد درويش فأعجب به وسافر خصيصًا إلى الإسكندرية لمقابلته. وجده يغني في أحد مقاهي حي اللبان الشعبي، فتعارفا سريعًا، وسرعان ما لمع نجم سيد درويش قبل أن يرحل مبكرًا عام 1923 عن عمر 31 عامًا فقط.
لقاء أم كلثوم
بعد عام من لقائه بسيد درويش، حضر زكريا سهرة رمضانية في السنبلاوين بدعوة من علي بك أبو العنين. هناك التقى بفتاة ذات صوت بديع، كانت أم كلثوم في بداياتها. أعطاها بعض التواشيح التي لحنها للشيخ علي محمود، ومن هنا بدأ مشوارها حتى صارت “الست”.
لحن لها العديد من الروائع مثل أهل الهوى والأمل وهو صحيح الهوى غلاب، آخر ما جمع بينهما. بل إنه لحن القرآن الكريم كاملًا بصوتها في مشروع لم يرَ النور، إذ اعترض الأزهر وقتها على تسجيل المصحف على أسطوانات معتبرًا الأمر “بدعة”.
خلافات وصراع قضائي
ظلت العلاقة بينه وبين أم كلثوم مثالية حتى عام 1956، حين نشب خلاف بسبب الإذاعة المصرية. كان زكريا قد وقع عقدًا معها عام 1926 يضمن له 5% من حقوق كل لحن يُذاع، باستثناء أم كلثوم وصالح عبد الحي، إذ لا يُذاع لهما إلا بإذن كتابي منه. غير أن أم كلثوم تجاوزت الاتفاق، فرفع عليها قضية.
طالب زكريا الإذاعة بمبلغ 40 ألف جنيه تعويضًا عن طباعة ألحانه على أسطواناتها، لكن الخلاف انتهى إلى المحاكم وضاعت بينهما الصداقة.
مأساة الأبناء
رُزق زكريا بثلاثة أبناء، لكن المصائب لم تفارقه. فقد اختفى ابنه الأوسط إحسان دون أن يُعرف له أثر حتى وفاته. ثم جاءت الفاجعة الكبرى بانتحار ابنه الأكبر يعقوب، الموظف الحكومي والملحن الناشئ. وقبل انتحاره، زاره ليسأله عن قضيته مع أم كلثوم، وقد استنزفت أتعاب المحامين كل ما يملك. وبعد ساعات، شرب يعقوب زجاجتين منوم وترك رسالتين، كتب في إحداهما: “لعل الدار الآخرة هي التي فيها الشفاء”، وفي الثانية: “من أكبر ما دفعني إلى الانتحار أن أبي مظلوم في الحياة.”
ظل زكريا مذهولًا لا يصدق، حتى أن الصحفي صالح جودت وجده في بيته يعزف على العود كأنه يتجاهل الفاجعة، فلما تأكد من الخبر أدرك أن الشيخ لا يجد عزاء إلا في الموسيقى.
ثم فقد لاحقًا ابنه محمد، فأصابه اكتئاب شديد لم يخففه سوى صديقه بيرم التونسي الذي جاء خصيصًا من الإسكندرية ليواسيه. دخل عليه وأنشده قصيدته الشهيرة “الأولة في الغرام”. وما إن وصل إلى بيت “حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي” حتى بكى زكريا، وأمسك العود ولحن القصيدة، لتخرج واحدة من أجمل أغنياته.
الصلح مع أم كلثوم
بعد سنوات في أروقة المحاكم، التقى زكريا وأم كلثوم وجهًا لوجه أمام القاضي. بكى وهو يقول:
“لا الفلوس بتدوم، ولا الشتيمة بتلزق.. وأنا مقدرش على زعل فنانة أحبها وأفتخر بيها.”
تأثرت أم كلثوم وبكت، ودوّى التصفيق في القاعة، ليعلن القاضي الصلح بينهما.
لاحقًا، لحن لها آخر أغنياته عام 1960، وهي هو صحيح الهوى غلاب. وعام 1961، قبيل رحيله، سأله صحفي عن رأيه في أم كلثوم، فأجاب مبتسمًا:
“أم كلثوم خربت بيتي، لكن الحق حق.. هي أستاذة تسوى رقاب اللي بيغنوا كلهم.”
اقرأ أيضًا: