
شكّل اغتيال الناشط الجمهوري البارز تشارلي كيرك صدمة للتيار المحافظ في الولايات المتحدة، ليس فقط بسبب شخصية كيرك المثيرة للجدل، وإنما لأن منفذ العملية كان ابنًا لعائلة جمهورية محافظة من طائفة دينية صارمة.
المنفذ هو تايلر روبنسون، شاب في العشرينات من عمره، لم يكمل تعليمه الجامعي بعد عام واحد في جامعة يوتا، واكتفى بالالتحاق ببرنامج تدريبي في الهندسة الكهربائية. على عكس والده مات روبنسون وهو جمهوري متشدد يدير مشروعًا ناجحًا لتركيب أسطح المطابخ والمخازن.
لم يكن تايلر مقتنعًا بأفكار الحزب الجمهوري ولا برموزه، بل كان ينتقدها علنًا حتى في حضور أسرته.
قبل الجريمة بأسابيع، دار نقاش حاد على مائدة العشاء عندما انتقد “تايلر” تشارلي كيرك صراحة، ما كشف عن هوة فكرية عميقة بينه وبين والده. ورغم اهتمامه الكبير بالأسلحة النارية، لم يكن أحد يتوقع أن يُقدم على اغتيال سياسي. لكن عندما وقع الحادث، تبين أن الطلقات التي أطلقها واستقرت في عنق كيرك تحمل كتابات مثل “ابلع يا فاشي” و”بيلا تشاو”، وهي الأغنية الشيوعية القديمة المعروفة. في رسالة سياسية واضحة.
المفاجأة الكبرى لم تكن الجريمة بحد ذاتها، بل ما تلاها: فحين انتشرت صور الجاني على الإنترنت، ورُصدت مكافأة قدرها 100 ألف دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، تعرّف الأب على ابنه من حذائه الرياضي. واجهه فأقر الشاب بما فعله، معتقدًا أن والده سيحميه، لكن الأب الجمهوري المتشدد قرر أن يسلّم فلذة كبده للـ FBI.
استعان بقريب للعائلة يعمل قسًا للشباب وعضوًا في مكتب المارشالات الفيدرالية، وتم إقناع تايلر بالاستسلام في النهاية.
غير أن هذه القصة العائلية والسياسية تأخذ أبعادًا أعمق عند النظر إلى خلفيتها الدينية.
المورمون: من وحي الألواح الذهبية إلى دولة الحلم الضائعة
ينتمي مات روبنسون وزوجته إلى طائفة المورمون، أو “كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة”، التي تُعد واحدة من أكثر الحركات الدينية إثارة للجدل في التاريخ الأمريكي الحديث.
تعود نشأة المورمون إلى عام 1830 حين أعلن جوزيف سميث في ولاية نيويورك أنه تلقى وحيًا من ملاك يُدعى “موروني”. بحسب روايته، دلّه الملاك على ألواح ذهبية مدفونة في جبل قريب، منقوش عليها بلغة قديمة، فقام بترجمتها وأصدر منها كتابًا اعتُبر لاحقًا الكتاب المقدس للطائفة: كتاب المورمون.
يحكي هذا الكتاب قصة جماعة من بني إسرائيل هاجرت من القدس حوالي 600 ق.م إلى القارة الأمريكية. هناك انقسموا إلى فريقين:
-
اللامانيون الذين ضلوا عن الدين وتحولوا إلى أسلاف الهنود الحمر.
-
النافيون الذين أسسوا حضارة متقدمة ثم انهارت بحروب طاحنة حوالي 400 ق.م.
زعم سميث أن موروني هو آخر أنبياء ذلك الشعب، وأنه خبأ الألواح ليكشفها له لاحقًا. وهكذا قدم نفسه باعتباره “نبي أمريكا” ورسولها الجديد.
لكن طموحات سميث لم تقتصر على الدين. ففي إلينوي أسس مدينة “ناوفو” وفرض تعدد الزوجات، بل أنشأ ميليشيا شبه عسكرية باسم “ناوفو ليغيون” قوامها 2500 رجل. بدأ يتحدث عن إقامة “مملكة لله” على الأرض، ما أثار غضب السلطات والمجتمع المحلي.
الأزمة انفجرت حين انشق عدد من مساعديه المقربين واتهموه باستغلال الدين لإشباع نزواته، بعدما حاول إقناع زوجاتهم بفكرة “تعدد الأزواج”. هؤلاء المعارضون أسسوا صحيفة “ناوفو إكسبوسيتور” لكشف ممارساته. ردّ سميث بهدم المطبعة، ما اعتُبر اعتداءً صارخًا على حرية الصحافة. اعتُقل مع أخيه، لكن الأهالي هاجموا السجن عام 1844 وقتلوه أثناء محاولته الهرب، لتُطوى صفحة مؤسس المورمون بدموية.
رغم مقتله، لم تنته الطائفة. بل قاد خليفته بريغهام يونغ – الذي تزوج 55 زوجة – المورمون في “الهجرة الكبرى” إلى ولاية يوتا، حيث أسسوا مجتمعًا منغلقًا قائمًا على الانضباط الديني، ليصبحوا اليوم جماعة تضم أكثر من 18 مليون تابع حول العالم، من بينهم كان مات روبنسون.
الأب، الابن، والطائفة
في ضوء هذه الخلفية، تبدو قصة عائلة روبنسون كمرآة للصراعات الداخلية التي ولدت مع الطائفة نفسها: صراع بين الولاء والانشقاق، بين الطاعة والتمرد، بين المحافظة والتغيير.
الأب، الوريث المخلص لتقاليد المورمون والجمهوريين، لم يجد بدًا في النهاية من تسليم ابنه الخارج عن الصف، وكأنها إعادة تمثيل لصراع قديم يتكرر في التاريخ المورموني نفسه.
ولا يعتبر الأمر مثلما روج العديد أن والده طمع في المكافأة المالية التي رصدها مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI من أجل المساعدة في القبض على القاتل. ولكن بسبب رؤى محافظة، وإيمان ما.
اقرأ أيضًا: