
في ربيع عام 1848، في بلدة صغيرة تُدعى هايدسفيل شمال ولاية نيويورك، ساد القلق في بيت عائلة فوكس. أصوات طرق غريبة على الجدران والأثاث كانت تُسمع كل ليلة، كأن شيئًا غير مرئي يحاول التواصل من العالم الآخر. ماغي وكيت، الطفلتان اللتان لم تتجاوزا سن المراهقة، أخبرتا والدتهما أن “روحًا” تسكن البيت وترد على الأسئلة من خلال الطرقات.
لم تكن الأم تعرف أنها أمام خدعة صغيرة ستتحول إلى ظاهرة روحية تجتاح أمريكا وأوروبا لعقود طويلة.
خدعة بريئة تتحول إلى شهرة ومال
انتقلت الفتاتان للعيش مع أختهما الكبرى “ليا” في مدينة روتشستر، وهناك تحولت الحكاية إلى مشروع تجاري كامل. وبدأت الأخوات في تقديم عروض استحضار الأرواح أمام جمهور واسع، وكانت أول جلسة عامة لهن في “قاعة كورنثيان” عام 1849 أمام نحو 400 شخص.
وسائل الإعلام التقطت القصة بسرعة. بين مؤمن ومشكك، صار الجميع يتحدث عن الأخوات فوكس. لم يمر وقت طويل حتى بدأت موجة من الأشخاص يدّعون أنهم وسطاء قادرون على التواصل مع الموتى، وتحولت الفكرة إلى ما يشبه الموضة.
عندما تتحول الأرواح إلى عرض مسرحي
مع الوقت، لم تعد الجلسات الروحية تقتصر على الهمسات والطرقات، بل صارت عروضًا متكاملة بالإضاءة والموسيقى والمؤثرات. دخلت صناعة الإعلام على الخط، وأصبح التواصل مع الأرواح “ترفيهًا”، يُباع ويُعرض مثل المسرحيات.
في أوروبا، انتقلت العدوى إلى قصور الملوك. الملكة فيكتوريا كانت تعقد جلسات خاصة لمحاولة التواصل مع زوجها الراحل، والأرملة الأولى ماري تود لينكولن أقامت جلسات استحضار أرواح داخل البيت الأبيض بعد وفاة أولادها.
ورغم أن بعض السحرة والمحققين – مثل هاري هوديني – كشفوا خداع الكثير من هؤلاء الوسطاء، ظل الجمهور يتردد على هذه العروض ويؤمن بها.
اعتراف يهز العالم… ثم تراجع يزيد الغموض
في عام 1888، وبعد نحو أربعين عامًا من انطلاق الظاهرة، ظهرت ماغي فوكس أمام جمهور غفير وقالت بوضوح:
“كل هذا كان خدعة. كنا نكسر مفاصل أصابعنا لنصدر أصوات الطرقات. لم يكن هناك أي روح.”
الصدمة كانت قوية، خاصة أن ماغي قدّمت عرضًا حيًا يشرح كيفية قيامها بالخدعة. وقالت للجمهور:
“لقد بدأت هذه الخدعة وأنا صغيرة جدًا لأميز بين الصح والخطأ. وكان هذا أعظم ندم في حياتي.”
لكن ما حدث بعد ذلك زاد الطين بلة. في السنة التالية، تراجعت ماغي عن اعترافها وقالت إنها كانت “مضغوطة نفسيًا” وقت التصريح. هل كانت تقول الحقيقة أم خضعت لضغوط؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين.
النهاية… أم مجرد بداية لحلم أبدي؟
رغم الاعتراف والتكذيب، لم تنته القصة عند الأخوات فوكس. ما بدأ كخدعة صغيرة، تحوّل إلى عقيدة روحية لا تزال حية إلى اليوم في بعض الثقافات والمجتمعات. ملايين البشر عبر العالم وجدوا في الروحانية عزاءً لأحزانهم، وبابًا مفتوحًا نحو من فقدوهم.
القصة الحقيقية هنا ليست فقط عن خدعة بنات صغيرات، بل عن هشاشة الإنسان أمام فكرة الموت، ورغبته العميقة في أن يكون هناك ما بعد النهاية… حتى لو كلّفه ذلك تصديق المستحيل.