
منذ استطاع الإنسان غزو الفضاء، والهبوط على القمر، وإرسال المركبات الفضائية والموجات الكهرومغناطيسية إلى الخارج وحلم هروبه من كوكب الأرض يراوده، وتكوين مستعمرات فضائية ينتقل إليها الجنس البشري أصبح حلمًا يبدو بعيد المنال. ومن الممكن أنه يرتبط أكثر بأفلام وقصص الخيال العلمي.
أحد هذه المحاولات هي ما نحكي عنه في هذا المقال، ففي التسعينات أمضت فرقة من البوهيميين عامين كاملين محبوسين داخل قبة زجاجية تدعى “بايوسفير2″، وانتهى الأمر بهم بالجنون!
وقد يبدو الأمر وكأنه مشهد من فيلم خيال علمي، أو نسخة شديدة الغرابة من برنامج Big Brother. ثمانية متطوعين يرتدون بدلات حمراء لامعة يدخلون إلى بيت زجاجي عالي التقنية يفترض أنه يحاكي أنظمة الأرض البيئية بكل دقة.
لكن تجربة “بايوسفير 2” كانت حقيقية تمامًا. استمرت من عام 1991 حتى 1993، وغالبًا ما تذكر— إن ذكرت أصلاً—كفشل ذريع، تجربة متغطرسة تفتقر إلى الأسس العلمية الحقيقية ولم يكن لها أن تحقق أهدافها أصلًا. ومع ذلك فتلك المغامرة تصلح اليوم كدرس تحذيري، حيث يقول مارك نيلسون أحد الثمانية الذين شاركوا في التجربة:
“مجرد أن نفس عدد الأشخاص الذين دخلوا هم من خرجوا، يعد إنجازًا بحد ذاته.”
وبعيدًا عن وصفها بالفشل، يرى نيلسون أن “بايوسفير 2” تمثل إنجازًا غير مُقدَّر في تاريخ الاستكشاف البشري، ويشاركه هذا الرأي كثيرون.
“أحب أن أقول إننا لم نبنها لأن لدينا الأجوبة، بل بنيناها لنكتشف ما لا نعرفه.”
بيوسفير 2
جاء المشروع كمحاكاة لكوكب الأرض، إذ امتد على مساحة 3.14 فدان لاختبار إمكانية الحياة البشرية المستدامة في بيئة مغلقة، كنموذج لمساكن الفضاء المستقبلية. وعلى مدار ما يقرب من عامين، قام الطاقم بزراعة طعامهم، وإعادة تدوير المياه والهواء، والعيش دون أي مدخلات خارجية.
ترجع أصول مشروع “بيوسفير 2” إلى أواخر ستينيات القرن العشرين في مدينة سان فرانسيسكو، حيث بدأت الفكرة مع رجل يُدعى جون ب. ألين.
كان ألين حينها في الأربعين من عمره، وقد جمع في شخصيته بين صفات متعددة جعلته أقرب إلى “رجل النهضة”: خريج جامعة هارفارد، ومهندس معادن، ومنظم نقابي، وشاعر ، ومسافر شغوف بدراسة الثقافات الأصلية.
أسس ألين جماعة فنية طموحة أطلق عليها اسم “مسرح كل الاحتمالات”. وكما يوحي الاسم، كان الهدف تغيير العالم، لكن لم يكن واضحًا من أين يبدأون: هل من الفن؟ أم من الاقتصاد؟ أم من البيئة؟ أم من التكنولوجيا؟ وفي روح ثقافة الستينيات المتمردة، قرروا: “فلنفعل كل ذلك!”
ورغم أنهم لم يملكوا خبرة حقيقية بأي من هذه المجالات، فإن شعار ألين كان بسيطًا وفعالًا: “التعلّم من خلال العمل” – وهو ما قادهم إلى أبعد مما تخيلوا.
في عام 1969، انتقلت الجماعة إلى ولاية نيو مكسيكو، حيث أسسوا مزرعة سموها “سينرجيا رانش”.
يقول نيلي نيلسون، الذي انضم إلى الجماعة في عمر الثانية والعشرين:
“كان ألين كتلة من الطاقة. جمع بين فهم عميق للمسرح والبيئة. وبصراحة، كان شخصًا كاريزميًا للغاية. كنا ننجز شيئًا ما، ثم نبحث عن التحدي التالي. لم يتوقف أبدًا عن رفع السقف.”
حولوا مزرعتهم الصحراوية إلى مجتمع مكتفٍ ذاتيًا، فزرعوا الأشجار، وبنوا المباني، بما فيها قبة جيوديسية من تصميم فولر. لم يقتصر نشاطهم على الزراعة، بل افتتحوا معرضًا فنيًا في لندن (ما يزال قائمًا حتى اليوم)، واشتروا مزرعة أخرى في أستراليا. وفي عام 1975، قرروا بناء سفينة! كان كبير المصممين طالبًا في التاسعة عشرة من عمره، دون خبرة سابقة في بناء السفن، ومع ذلك أبحرت السفينة بنجاح وطافت حول العالم لعدة سنوات، حيث أجروا خلالها دراسات ميدانية على أنظمة البيئة الأرضية.
ومع فهمهم العميق لهذه الأنظمة، شعروا بأنهم مستعدون لبناء بيئتهم المصغرة الخاصة. فوفق تصورهم، إذا كانت البشرية تطمح لاستيطان كواكب أخرى، فعليها أن تتعلم كيف تعيد إنتاج كوكب الأرض.
بالنسبة لجيل تربى على مشاهد الهبوط على سطح القمر وأفلام مثل 2001: أوديسة الفضاء والجري الصامت (Silent Running)، لم تكن هذه الفكرة بعيدة المنال. والأهم أنهم وجدوا من يمول هذا الحلم: الملياردير النفطي إد باس من تكساس، الذي قادته رحلته الذاتية إلى أن يصبح أحد الداعمين الرئيسيين لمشاريع ألين الطموحة.
رحلة إلى المجهول: عندما انطلقت “بيوسفير 2” كأنها مهمة فضائية
حين أُطلق مشروع “بيوسفير 2″، بدا المشهد وكأنه مقتطع من فيلم خيال علمي أو مهمة ناسا إلى كوكب آخر. فقد توافد الإعلاميون من كل صوب على المنشأة الواقعة في ولاية أريزونا، والتي بلغت تكلفتها 150 مليون دولار. كانت تبدو كتحفة معمارية: جدران بيضاء لامعة، وأهرامات زجاجية تحتوي على غابات مطيرة، وصحارى، ومختبرات، وأنظمة لإعادة التدوير، بالإضافة إلى حيوانات من مختلف الأنواع: خنازير، دجاج، طيور طنانة بل وحتى شعاب مرجانية.
في أجواء احتفالية مليئة بالخطب والألعاب النارية، دخل ثمانية متطوعين (أربع نساء وأربعة رجال، جميعهم من البيض) مرتدين بدلات موحدة إلى “البيئة المغلقة” ليبدأوا تجربة تمتد لعامين داخل هذا العالم المصغر المعزول تمامًا عن الأرض.
بداية واعدة… ثم المشكلات
في البداية، بدا كل شيء مستقرًا. لكن سريعًا ما بدأت المشكلات في الظهور، وأولها: الطعام.
تقول ليندا لي، إحدى المشاركات في التجربة:
“كنا في حاجة ماسة إلى سعرات حرارية أكثر.”
كانت لي من الفريق المسؤول عن اختيار النباتات البرية داخل “بيوسفير 2″، لكن العديد من المحاصيل الغذائية كانت بطيئة النمو أو تحتاج إلى جهد يفوق العائد. على سبيل المثال، كانت شجيرات القهوة البرية تحتاج أسبوعين كاملين لإنتاج كمية كافية لصنع كوب واحد فقط!
وبدلًا من العيش في فردوس أخضر، أصبح المشاركون أقرب إلى مزارعين يعيشون بالكاد على الكفاف. كان غذاؤهم الأساسي يتكوّن من البنجر والبطاطا الحلوة.
“كان من الصعب ابتكار وجبات شهية. كنا نتناوب على الطهي. بعضنا ابتكر وصفات طريفة، مثل تاكو على شكل ديناصور، والبعض الآخر صنع أطباقًا مروعة، مثل حساء بارد من أوراق البطاطا.”
النتيجة: الجميع فقد وزنًا كبيرًا.
أزمة الأوكسجين
لم يكن الطعام هو التحدي الوحيد. فقد انخفض مستوى الأوكسجين في الجو داخل القبة بشكل أسرع من المتوقع، بينما ارتفعت نسبة ثاني أكسيد الكربون. فبينما يحتوي الغلاف الجوي للأرض على نحو 21% من الأوكسجين، انخفضت النسبة داخل “بيوسفير 2” إلى 14.2% فقط.
يقول نيلسون:
“كان الأمر يشبه تسلق الجبال. بعض أعضاء الفريق أصيبوا بانقطاع النفس أثناء النوم. وكنت أجد نفسي عاجزًا عن إكمال جملة طويلة دون أن أضطر لأخذ نفس عميق.”
تحول العمل داخل المنشأة إلى نوع من “الرقص البطيء” الموفر للطاقة، حتى لا تستنزف قدراتهم الجسدية. ولو استمر الانخفاض أكثر من ذلك، لكانت المخاطر الصحية جسيمة.
تدهور المعنويات
من الطبيعي أن تتدهور المعنويات مع مرور الوقت. فقد كانت الحياة داخل “بيوسفير 2” تحديًا حتى في أفضل الظروف. وإذا بدت فترة الإغلاق أثناء جائحة كورونا خانقة للبعض، فتصور أن تعيش عامين كاملين مع نفس السبعة أشخاص، دون إنترنت، ودون أي منفذ إلى العالم الخارجي. يشبّه نيلسون التجربة بـ
“جلسة علاج جماعي طويلة للغاية.”
ولم يكن الأمر مجرد عزلة، فالمشاركون كانوا دائمًا تحت الأضواء. فقد كانت حافلات السياح والطلاب تتوافد يوميًا إلى الموقع، يطرقون الزجاج ويلتقطون الصور لطاقم التجربة الذي بدا عليه الإرهاق والهزال. وتتذكر ليندا لي زيارة عالمة الأنثروبولوجيا الشهيرة جين غودال قائلة:
“كانت تراقبنا كما لو كنا قرودًا محتجزة في قفص.”
ورغم أن الأمور لم تصل إلى العنف الجسدي، إلا أن التوترات بلغت ذروتها. تقول لي:
“كانت هناك مشاعر بالبرود، بالرغبة في تجنب بعضنا البعض، لا أكثر.”
في نهاية المطاف، انقسم الفريق إلى معسكرين، كل منهما يضم أربعة أعضاء. تقول لي عن مجموعتها:
“كنا نؤيد جلب طعام إضافي وأوكسجين إضافي لإنقاذ التجربة، حتى لا تؤثر معاناتنا الشخصية على العمل العلمي الذي نقوم به.”
أما الفريق الآخر، فكان يتمسك بنقاء التجربة، ويرى أنه يجب عدم التدخل الخارجي مطلقًا، مهما كانت التكاليف الجسدية أو النفسية.
الجدل يمتد إلى الخارج
لم يكن هذا الخلاف حكرًا على الداخل، بل امتد إلى العالم الخارجي. فمشكلات “بيوسفير 2” لم تعد سرًا، رغم محاولات جون ألين وفريقه التخفيف من وقعها إعلاميًا. ومع تزايد الضغوط، بدأ المسؤولون في تهريب الطعام إلى الداخل بشكل سري، ثم تلت ذلك عمليتان لضخ الأوكسجين.
وعندما حدث ذلك، كان طاقم “بيوسفير 2” في غاية السعادة. فمهما كانت طموحات التجربة، الإنسان يظل بحاجة إلى الهواء والطعام كي يستمر، حتى ولو كان هدفه إعادة خلق الأرض داخل قبة زجاجية.
فرحة مؤقتة:
يستعيد مارك نيلسون لحظة ضخ الأوكسجين إلى “بيوسفير 2” قائلاً:
“بدأ الناس يضحكون بجنون ويركضون في كل مكان. شعرت كأنني كنت في التسعين من عمري، وفجأة عدت مراهقًا من جديد. أدركت حينها أنني لم أر أحدًا يركض منذ شهور.”
لكن بينما كانت أجواء الفرح تعم داخل القبة الزجاجية، كانت وسائل الإعلام تمزق المشروع خارجيًا. بدأ كثيرون التقليل من شأن التجربة، واعتبرها البعض ترفيهًا بيئيًا عصريًا لا أكثر، كما وصفها أحد المعلقين.
رغم ذلك، لا يرى نيلسون التجربة بهذه الصورة السطحية.
“بطريقة ما، تم اختزال المشروع في فكرة واحدة:’هذا اختبار بقاء، والنجاح الوحيد هو أن يعمل كل شيء بشكل مثالي، دون أي تدخل خارجي‘. لكن هذا لم يكن أبدًا الهدف الحقيقي.”
الهدف كان التعلم، لا الكمال
منذ البداية، كان الهدف هو الاستمرار والتعلم من الأخطاء. وبالفعل، أُطلقت مهمة ثانية في مارس 1994، وبدا أنها تسير بشكل أفضل. لكن فجأة، وبعد شهر فقط، قرر الممول الرئيسي إد باس إجراء تطهير شامل للمشروع، بدعوى جعله أكثر “احترافية تجارية”. فتم إقصاء جون ألين وفريقه بالكامل، وجُلب مدير تنفيذي جديد.
هذا المدير كان ستيف بانون، نفسه الذي أصبح لاحقًا مستشارًا استراتيجيًا لدونالد ترامب وواحدًا من أبرز رموز التيار اليميني الشعبوي في أمريكا. كم هو مناسب كرمزية لمصير الكوكب: طموح بيئي مثالي ينتهي بقبضة رأسمالية قاسية.
العديد من أفراد الفريق الأصلي ما زالوا يعيشون معًا حتى اليوم في مزرعة سينرجيا رانش، ومن بينهم نيلسون وألين، الذي بلغ التسعين من عمره.
أما اليوم، فمشروع “بيوسفير 2” تديره جامعة أريزونا، فيما تقود ليندا لي مشروعًا لزراعة الحدائق المجتمعية في بلدة أوراكل القريبة – وكأنها تعيد إحياء جزء صغير من الحلم الكبير الذي بدأ في الصحراء قبل عقود.
رغم كل ما حدث، يؤكد كل من مارك نيلسون وليندا لي أنهما سيشاركان مجددًا في التجربة دون تردد. لقد غيرتهم “بيوسفير 2” بطرق عميقة، ويتمنيان لو أن المجتمع ككل عاش تجربة مماثلة، أو على الأقل فهم مغزاها.
يقول نيلسون:
“داخل ’بيوسفير 2‘، كل شيء كان له معنى. كل فعل تقوم به، كنت ترى أثره مباشرة. لم يكن هناك شيء يحدث دون تبعات. شعرت أن جسدي تلقى رسالة واضحة: في كل مرة أتنفس، هناك نباتات تنتظر ثاني أكسيد الكربون الذي أخرجه. كانت تلك النباتات هي رئتي الثالثة. فكرت حينها: ’يا إلهي، هذا ما يبقيني حيًا! أنا مرتبط حيويًا بكل ما هو حي هنا.‘”